ومما هو جدير بالذكر أن لى أخًا "كان" أصغر منى، فصار يدعى الآن أنى أنا الأصغر! والأمر لا يستحق خلافًا، وأحسبه يعنى أنه يبدو فى رأى العين أكبر منى، وقديما كان الحسد بين الإخوة، فلندع هذا ولنعد إلى أيام الطفولة البريئة – أيام لم يكن هناك شك فى إرباء سنى على سنه، وكان لأبى مكتب فى البيت، فكنا إذا عدنا من "الكتاب" وشرعنا نلعب فى الأطفال مثلنا أمام البيت، يمر بائع "دندرمة" ويقف بيننا يخايلنا ويغرينا حتى يجرى ريقنا، ولما كنت يومئذ أنا الأكبر، بلا نزاع، فقد كنت أنا الذى يجترئ على الدخول على أبى، وهناك – إلى جانب المكتب – أظل واقفا أهمس بأخفت صوت:
"أبويا. أبويا. هات إرش".
وهو مكب على أوراقه لا يسمع، أو لعله كان يتظاهر بذلك، وأنا صابر مثابر وواقف كأنى بعض ما فى الغرفة – أو المنظرة كما كانت تسمى – من أثاث سوى أن لسانى لا يمل ترديد العبارة المألوفة، حتى يؤذن الله بالفرج فيرفع وجهه ويمد يده ليتناول فنجانة القهوة فأتقدم خطوة وأبرز من وراء الكرسى فيلمحنى ولا تعود بى حاجة إلى الكلام فيدفع يده فى جيب الصديرى ويخرج القرش ويناولنيه فأعود، متسللا إلى جانب الجدران، حتى إذا جاوزت المنظرة اندفعت أعدو وأتوثب حتى أصير إلى عربة "الدندرمة" فأدس القرش فى يد الرجل فيناول كلا منا كوباً أو كوبين، فقد كان يصدقنا حينا ويغالطنا أحيانا.
وكان أخى فى الرابعة من عمره فى ذلك الوقت، وكنت أنا فى الثامنة، فما أسرع ما أدركنى وفاتنى أيضا! فاتفق يوما أن كنت مريضًا، ومر بائع الدندرمة على عادته، ولم يجرؤ أخى أن يدخل على أبيه. وأنصفه – أعنى أخى وإن كانت دعواه قد طالت وعرضت – فأقول أن الخادم لم يكن يدعه يدخل قط، مخافة أن يحسده الغرباء من عملاء المكتب، فقد كان حلوا سمينا وكانت فيه لثغة محببة، على أن العبرة بالخواتيم، فوقف يبلع من الدندرمة حتى اكتظ ثم طالبه الرجل بالثمن فقال:
"مفيس".
ونفض كفيه، فألح الرجل عليه، فلم يعبأ به الأخ، الفاضل، وهم أن يمضى عنه. ولكن البائع كان أحرص على ماله من أن يدعه ينصرف بهذه السهولة فأمسك بجلبابه، فحار المسكين ماذا يصنع، ثم فتح الله عليه بما يحل الأشكال فرفع يده وخلع طربوشه وناوله إياه وقال:
"خد طلبوسى ويبقى خلاص".
ونظر الرجل إلى الطربوش فألقاه جديدًا، وإلى سعته فوجدها عظيمة، وإلى رأس الطفل فرآه شيئا ضخما، فخلع الطاقية وجرب الطربوش فإذا هو كأنه مصنوع له، فألقى إلى الباب نظرة فلم ير الخادم فمضى بالعربة يعدو.
وقد افتدينا الطربوش فى اليوم التالى بنصف فرنك. (المازنى)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق