سُرقت في طفولتى. سرقتنى جارية سوداء لامعة كالفحم "السكوك"، وكنت ألعب أمام البيت، فاحتملتنى ومضت بى، ولم يفزعنى وجهها الأسود فأرحت رأسى على كتفها ونمت، وقد استردنى أهلى على ما يزعمون، ومن أدرانى أنهم لم يغلطوا؟ من أين لى أن أعلم أنى أنا ذلك الطفل الذى خطفته الجارية بعينه، لا طفل آخر شبيه به، ففى حقيقتى شك كما ترى كما فى كل الحقائق الأخرى.
وليتنى أهتدى إلى هذه الجارية الطيبة القلب التى رأت أنى جدير بأن أخطف! إذًا لقبلتها بين عينيها وأسندت رأسى إلى صدرها وبكيت شكرًا لها وإعجابًا بذوقها. ولكن هذا لا سبيل إليه حتى لو أنها لا تزال على ظهر الأرض أو قيد الحياة كما يقولون، غير أن مالا يدرك كله لا يترك كله، أريد أن أقول: إنه إذا كان قد فاتنى أن أفضى إلى هذه الجارية بما يجن صدرى لها، فقد وجدت أنها عاطفة قابلة للتحويل، ومن أجل ذلك لا أضن على أية جارية بما هو من حق تلك التى لا سبيل إليها...
وقد غلطت مرة فشرحت هذه النزعة لزوجتى بأوفى ما يدخل فى طوقى من البيان، فكان تعليقها بعد أن أصغت إلى إصغاء محمودًا أكبرته وشكرته:
"كان يجب إذًا أن تتزوج جارية! ومع ذلك لم تضع الفرصة فلا يزال هذا فى وسعك".
وتركتنى وحدى فى الغرفة، فذهلت ولم أفهم، وعجبت لقدرة المرأة على تصور المسائل مقلوبة، وإداركها معكوسة.
ويتفق أحيانا أن نرى – أعنى زوجتى وأنا – جارية فيجيش صدرى وأحس كأن عواطفى المكتومة تكاد تنفجر أو تخنقنى، غير أنى أضبط نفسى وأكبحها، فإن إلى جانبى عينين محملقتين تنظران إلىَّ، والكبح تعذيب. وقد ضاق صدرى مرة فقلت لزوجتى:
"إنك مخطئة. مخطئة جدًا. وكل ما فى رأسك الصغير هذا، أوهام فى أوهام، ولو أنك كنت خطفتنى وأنا طفل لحفظت لك هذا الجميل ولبقيت طول حياتى شاكرًا لك هذه اليد بدلا من هذه الجارية التى أبحث عنها فلا أجدها والتى أحس أنى أراها فى كل جارية أخرى".
فتجهم وجهها وقالت: "وماذا أيضًا؟"
قلت: "لا شىء أنها عاطفة شكر طبيعية لا ضير منها على أحد".
قالت: "لو كنت خطفتك وأنت طفل؟! طبعًا! فإنى فى عمر جدتك أليس كذلك؟ لا بأس".
قلت: "ليس هذا ما أعنى! إنما أفترض حالة لأساعدك على تصورها".
قالت: "سامحك الله" ومضت عنى.
هذا والأمر لم يَعدُ الكلام، فكيف لو أنه اتفق أن أتيح لى أن أفيض على إحدى الجوارى مما أطوى عليه أضالعى لجنسها! إن مجرد التفكير فى هذا يرعبنى!.
(المازني 1932)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق