الأربعاء، 29 يونيو 2011

ذهول رمضاني


كانت لى عمة يورثها الصيام ذهولاً عجيبا، وكانت إلى هذا كبيرة السن، ولكن الطفولة لا رحمة فيها ولا شفقة. وهى - أى الطفولة لا عمتى بالطبع كما لا أحتاج أن أقول - الدليل على أن الإنسان لا فاضل ولا كريم ولا شريف ولا على شئ من الخير فى الأصل، وإنما يكون كذلك بالعادة والتنشئة وبقوة العرف وبالقوانين والشرائع الزاجرة وما الى ذلك.. ولكن هذا موضوع آخر بعيد جدا عما نحن فيه الآن وقد تتاح لى فرصة أخرى فأخوض فيه معكم. وأرجع إلى عمتى إذا سمحتم فأقول أن ذهولها كان مظهره أنك إذا جلست إلى جانبها وهمست بكلمة ما - أى كلمة - أدخلتها هى فى كلامها غلطًا، فمثلا كنت أجلس إلى جانبها وأقول بصوت خفيض جدًا هكذا: "مضروبة.. مضروبة.. مضروبة.." ويخطر لها هى أن تنادى أمى مثلاً فى هذه اللحظة فتقول - هذا على سبيل المثال بالطبع –:
"يا مضروبة على عينك يا ست أم فلان".
أو يتفق أن تكون فى حديث مع خالها - وكان حيًا فى ذلك الوقت ولا احتاج أن أقول أنه كان طاعنًا فى السن - فأُسر إليها هذه الكلمة بالصوت الخافت: "كذاب.. كذاب.. كذاب.." فما يكون منها إلا أن تقول له:
"يا خالى الشيخ [يا] كذاب".
فأموت أنا من الضحك، ويحدق الشيخ الوقور فى وجهها مذهولاً من هذا الاجتراء عليه، وتنهرنى أمى وهى تكاتم الضحك وتغالبه، فأقوم أجرى وأنا أتعثر كل بضع خطوات من شدة الضحك" (المازني 1937)

جارنا الطرابيشى


وكان لنا جار طرابيشى لم أر أشد منه سهوًا فى حياتى ومما أذكره من حوادث سهوه واضحك منه إلى اليوم أنه نودى مرة من تحت الشباك، وكان المنادى ملحاحًا عظيم اللجاجة، وكان هو نائما فاستيقظ على الصوت الصارخ الملحف وأطل من النافذة . فأهاب به صاحبه أن ينزل بسرعة فقال:
"حاضر ..حالاً.. حالاً..".
وتناول طربوشًا فوضعه على رأسه، ثم نسى أنه لبسه، وكان يهم بالخروج من الغرفة، فأخذت عينه طربوشًا آخر فخيل إليه أنه نسى الطربوش فوضع الطربوش الثانى على الأول وانحدر مسرعًا؛ فلما بلغ باب البيت ارتد مسرعًا فصاح به صاحبه:
"تعال.. تعال.. ".
فرد عليه الطرابيشى بصوت عال:
"حالاً حالاً.. بس نسيت الطربوش" (المازني 1937)

الأحد، 26 يونيو 2011

فضائل الحيطان الأربعة


"كان قوام الفضائل الجنسية فى العهد السابق هو الحجاب، فهى فضائل كانت فى أمانة الحيطان الأربعة واليراقع والملاءات والحبرات، وما إلى ذلك مما يجرى مجراه. أعنى بذلك أن عماد الفضيلة كان البعد عن المغريات واجتناب التعرض لها. وإذا كانت المرأة لا تبرز للرجال والرجال لا يختلطون بالنساء فى الحياة العامة، فليس هناك ميدان مشترك، ومعنى هذا أنه لم تكن ثم فرصة - بالمعنى الصحيح - لاختبار الفضائل الجنسية ومبلغ قوتها وقدرتها على مقارنة الإغراء وثباتها على الامتحان.
وقد عصفت الأيام بهذا الحجاب فهدمت الحيطان، ونزعت البراقع، ونضت عن الأجسام هذه الملاءات وأشباهها مما كانت المرأة تلف منه فى مثل أكياس القطن، وبذلك تغير وجه الأمر، ولم يعد من الممكن أن تقاس الفضائل الجنسية فى هذا الزمان بما كانت تقاس به فى الأيام الخالية؛ لأن الحيطان الحاجزة لم تعد موجودة، والبراقع الساترة قد زالت، ولم تتغير الثياب وحدها – ولو أن هذا كل ما هناك لما أحدث كبير فرق – وإنما تغيرت العلاقة بين الرجل والمرأة؛ فصار هناك ميدان مشترك تتسع حلبته شيئًا فشيئًا على الأيام، ويتقارف فيه الجنسان ويتعارفان ويتناوشان ويتصاولان ويتجاولان ويتحاوران. وقد جاء هذا الانتقال فجأة حتى ليمكن أن يقال أنه كان طفرة أو أشبه شئ بالطفرة، وأعانت على السرعة فيه الفورة الشديدة التى حدثت فى حياة مصر وتناولت أعماقها كما تناولت سطوحها ووجودها، فكان هذا الانقلاب التام – أو الذى يكاد يكون تامًا – فى أوجز زمن" (المازني 1936)

الثياب والجمال العاطل


"كانت المرأة القديمة لا تخرج ولا تظهر إلا لبعلها، ولمن يأذن هو لها فى لقائهم. وكانت ثيابها أوسع وأطول وأستر للجسم وأغلظ والتكلف فى تفصيلها أشد وكان الغرض منها الستر والزينة معًا فخفت الزينة وخلت من الأناقة والظرف. وكانت المرأة تطلب من الثوب أن يجعلها أجمل – فجماله شئ مستقل تضيفه المرأة إلى نصيبها من ذلك. والثياب الآن لها غاية أخرى فهى ليست جمالا مضافًا وإنما هى أداة لإبراز الجمال الطبيعي للجسم الإنساني، فهى لهذا تظهر الجسم وتبرز محاسنه وتؤكده مزاياه، وإذا كانت لا تزال تستر فإنما تستر لتكشف. وتغطى ما تغطى لتجعل فتنته أقوى، ووقعه أعمق. فالجيل الحاضر من هذه الناحية أفطن لمعنى الجمال واعرف بوسائل إظهاره وأساليب الفتنة. ومن آيات ذلك أن المرأة القديمة وان كان العهد بها قريبًا جدًا كانت تستكثر من الحلى وتؤثر منها الكبير الغليظ الثقيل، وقلما تعنى الفتاة الحديثة بحلية تلبسها إلا فى المناسبات التى تستدعى ذلك، ويندر أن تبدو فى العادة بأكثر من حيلة صغيرة دقيقة لا تكاد العين تراها، لأنها تدرك أن للجمال العاطل فضله ومزيته أيضًا" (المازني 1936)

الخطيب القصير المكير


"الخطيب الذى يحتاج إلى كرسى يقف عليه ويضيف ارتفاعه إلى قامته، لا يمكن أن يكون إلا مغريًا بالضحك، والتأثير هو مطلب الخطيب، ولا سبيل إليه إذا لم يكن مالئًا للعيون على الأقل إذا أعياه أن يملأ الصدور أيضًا. ولكن هذا الشعور الثقيل الذى يوحيه القصر إلى النفس كثيرًا ما يكون مصدر قوة، لأنه يدفع المرء إلى تعويض النقص الذى منى به، كما هى العادة، ولكن الشرط أن يثقل الإحساس بالنقص على النفس وأن يشق عليها احتماله، فيكون ذلك مغريًا لها بالتماس العوض من طريق آخر. ومن هنا قالوا أن القصار أدهى من الطوال، وليس هذا بصحيح فى كل حال، ولكنه صحيح فى الأغلب والأعم بسبب ما ذكرنا من الرغبة الطبيعية فى تعويض النقص" (المازنى 1935 أي قبل ميلاد ساركوزي بعشرين سنة)

الاثنين، 20 يونيو 2011

هؤلاء الألمان الذين يتفلسفون علينا


"تمنيت، وأنا أدير عينى فى كتبى على رفوفها، لو أن هؤلاء الألمان الذين يتفلسفون علينا بما لا نفهم، بينوا لنا – أو لى أنا على الأقل – ماذا يريدون أن يقولوا. عجيب أمرهم والله! قرأت مرة لأحدهم – وأظنه "هِجل" فما أذكر الآن بعد هذا الزمن كله – كتابًا فى "فلسفة التاريخ" فخرجت منه كما دخلت، وقلت لنفسى:
إما أنى أنا حمار، وإما أن هذا الرجل لا يحسن العبارة عما فى رأسه، ولكنى أفهم عن غيره فلماذا أرانى لا أفهم عنه؟؟ وكيف يعقل أن أعجز عن فهم ما أخرجه عقل إنسان مثلى؟
وكان فى هذا الكتاب فصل عن المدنية الإسلامية أو عن تاريخ العرب – فقد نسيت – خيل إلى أنى فهمت أقله، ودارت الأيام، ووقع فى يدى كتاب لرجل أمريكى اسمه "دريبر" عن المدنية ونشوئها، يكتب كما يكتب خلق الله – لا الألمان – فإذا فيه فصل طويل عن العرب يعد تطبيقًا لنظرية هِجل التى لم أفهمها، فسألت نفسى:
لماذا لم يكتب هِجل كما يكتب هذا الرجل؟؟
ثم عدت أسألها وأتعجب:
لماذا فهم "دريبر" عن "هِجل" ولم أفهم أنا عنه؟
وأسأت الظن بنفسى واعتقدت أن بى نقصًا فى التدريب العقلى، وراجعت "هِجل" وكررت إلى هؤلاء الألمان المعوصين كرة المصمم المستميت، ولكن مضغ الجلاميد أعيانى، فنفضت يدى منهم – ومن نفسى – يائسًا، وقلت: يا هذا، لقد صدق القائل: كل ميسر لما خلق له، وأنت لم تخلق لتقرأ فلاسفة الألمان، فارجع عنهم، وانج بنفسك منهم" (المازني 1935)

الحنين لزمن القراءة


ما عدت إلى كتاب قط إلا استعدت الخواطر والخوالج التى لا سبيل إلى استعادتها بغير هذه الوسيلة، فأتذكر الوجوه التى كنت أراها إذا أرفع عينى عن الكتاب، والمكان الذى كنت فيه، والجو والمناظر التى أحاطت بى، وما وقع فى نفسى من الكتاب ومن ذلك كله، وفى هذا التذكر جمع لما يتفرق من شخصيتى وبتبعثر على الأيام.. (المازني 1935)

الاثنين، 13 يونيو 2011

معركة كل صباح


فى كل صباح تنشب فى البيت معركة.
تدق الساعة سبع دقات، فأسمع نقرا على الباب، فأستعيذ بالله، وأتناوم – أعنى أتصامم؛ فيتكرر الدق ويعلو، فأصيح:
"نعم، ماذا إن شاء الله على الصبح".
فيقول الصوت: "قم!".
فأقول مغالطًا: "الساعة السادسة فلماذا أقوم من الفجر؟"
فيقول الصوت: "بل هى السابعة؛ فقم ولا تكسل!"
فأقول: "لم أسمع إلا ست دقات"
فيقول الصوت: "بل دقت سبع مرات"
فأؤكد أنها ست، ويؤكد الصوت أنها سبع! فأقول: " إذن فلننتظر حتى نسمع دقة الساعة الآتية".
فتفتح زوجتى الباب وتقول: "ألا تنوى أن تقوم؟"
فأقول محتجًا على هذا الازعاج: "لماذا بالله أقوم، واليوم يوم جمعة؟"
فتقول: "إنه الثلاثاء لا الجمعة"
فأقول: "بل هو الجمعة. على كل حال قد اختلفنا، وقد قالوا أن اختلاف الفقهاء رحمة. وكذلك أرى اختلافنا. فدعينى حتى يجئ زائر من الزوار الكثيرين فنسأله عن يومنا هذا ما هو؟"
فتقول: "كل يوم عندك يوم جمعه؟ هيه؟"
فأقول: " يا ستى لقد اختلفنا، ويجب إن ننتظر ثالثا يجئ فيقضى بيننا بالحق"
فتقول: "طيب. سأجئ بمن يقضى بيننا"
وتجئ بالأطفال وتساعدهم، على جرى من رجلى، وإنزالى عن السرير، وإدخالى فى الثياب، ودفعى إلى الباب، وهى تقول:
"لم أر أشد منك كسلاً عن السعى لرزق أولاده؟"
فأخرج إلى الطريق وأنا أقول لنفسى:
"ولماذا لا يسعون هم لرزقهم؟ لقد قرأت فى الكتب أن الضرورة أم الاختراع، وأن الحاجة تفتق الحيلة، ولست أرى حاجة هؤلاء الأولاد الملاعين إلى الرزق تفتق لهم إلا حيلة واحدة أو اختراعًا واحدًا – هو كيف يكرهوننى على العمل والسعى وهم قعود ينعمون بالراحة وأحرمها!" (المازني فبراير 1935)

الجمعة، 10 يونيو 2011

العيد في مصر

ولعل مصر هى الوحيدة التى يزور أهلها القبور فى أعيادهم لا يستثنون من ذلك عيدًا أو موسمًا، وكل مناسبة عندهم فرصة لهذه الزيارة، وهى أصلح ما تقضى فيه مواسمهم وأعيادهم، وأحسبهم ورثوا هذه النزعة عن المصريين القدماء؛ فإنّا نراهم يقيمون على القبور بيوتا ويشيدونها كالقصور، ويؤثثونها، ويعنون بفرشها، وغرس الحدائق فيها، وتعيين الحراس والخدم والقراء عليها، ويزورونها بالطعام والفاكهة والورود والرياحين وسعف النخل، وإذا كان فقيدهم قريب عهد بالوفاة زاروه بالبواكير من الفاكهة قبل أن يطعموها فى بيوتهم ولم يستحلوا أن يذوقوها إلا بعد ذلك، وهذا كله مأخوذ عن المصريين القدماء ومقتبس منهم، ومما نقلوه أيضا أن يجعلوا القبر على شكل الغرفة، يجرون فى ذلك على عرق قديم، ولا دخل للدين فى هذا، وإنما هو مزاج موروث، وعسى أن يكون مما تحمل عليه طبيعة هذا البلد، ولا عجب فإن مصر هى أول من فكر فى الآخرة والروح وعنى بأمرهما، وجعل هذه الحياة الدنيا أشبه بالمقدمة لتلك التى تليها وراء أستار الغيب. (المازني 1934)

بائع الدندرمة

ومما هو جدير بالذكر أن لى أخًا "كان" أصغر منى، فصار يدعى الآن أنى أنا الأصغر! والأمر لا يستحق خلافًا، وأحسبه يعنى أنه يبدو فى رأى العين أكبر منى، وقديما كان الحسد بين الإخوة، فلندع هذا ولنعد إلى أيام الطفولة البريئة – أيام لم يكن هناك شك فى إرباء سنى على سنه، وكان لأبى مكتب فى البيت، فكنا إذا عدنا من "الكتاب" وشرعنا نلعب فى الأطفال مثلنا أمام البيت، يمر بائع "دندرمة" ويقف بيننا يخايلنا ويغرينا حتى يجرى ريقنا، ولما كنت يومئذ أنا الأكبر، بلا نزاع، فقد كنت أنا الذى يجترئ على الدخول على أبى، وهناك – إلى جانب المكتب – أظل واقفا أهمس بأخفت صوت:
"أبويا. أبويا. هات إرش".
وهو مكب على أوراقه لا يسمع، أو لعله كان يتظاهر بذلك، وأنا صابر مثابر وواقف كأنى بعض ما فى الغرفة – أو المنظرة كما كانت تسمى – من أثاث سوى أن لسانى لا يمل ترديد العبارة المألوفة، حتى يؤذن الله بالفرج فيرفع وجهه ويمد يده ليتناول فنجانة القهوة فأتقدم خطوة وأبرز من وراء الكرسى فيلمحنى ولا تعود بى حاجة إلى الكلام فيدفع يده فى جيب الصديرى ويخرج القرش ويناولنيه فأعود، متسللا إلى جانب الجدران، حتى إذا جاوزت المنظرة اندفعت أعدو وأتوثب حتى أصير إلى عربة "الدندرمة" فأدس القرش فى يد الرجل فيناول كلا منا كوباً أو كوبين، فقد كان يصدقنا حينا ويغالطنا أحيانا.
وكان أخى فى الرابعة من عمره فى ذلك الوقت، وكنت أنا فى الثامنة، فما أسرع ما أدركنى وفاتنى أيضا! فاتفق يوما أن كنت مريضًا، ومر بائع الدندرمة على عادته، ولم يجرؤ أخى أن يدخل على أبيه. وأنصفه – أعنى أخى وإن كانت دعواه قد طالت وعرضت – فأقول  أن الخادم لم يكن يدعه يدخل قط، مخافة أن يحسده الغرباء من عملاء المكتب، فقد كان حلوا سمينا وكانت فيه لثغة محببة، على أن العبرة بالخواتيم، فوقف يبلع من الدندرمة حتى اكتظ ثم طالبه الرجل بالثمن فقال:
"مفيس".
ونفض كفيه، فألح الرجل عليه، فلم يعبأ به الأخ، الفاضل، وهم أن يمضى عنه. ولكن البائع كان أحرص على ماله من أن يدعه ينصرف بهذه السهولة فأمسك بجلبابه، فحار المسكين ماذا يصنع، ثم فتح الله عليه بما يحل الأشكال فرفع يده وخلع طربوشه وناوله إياه وقال:
"خد طلبوسى ويبقى خلاص".
ونظر الرجل إلى الطربوش فألقاه جديدًا، وإلى سعته فوجدها عظيمة، وإلى رأس الطفل فرآه شيئا ضخما، فخلع الطاقية وجرب الطربوش فإذا هو كأنه مصنوع له، فألقى إلى الباب نظرة فلم ير الخادم فمضى بالعربة يعدو.
وقد افتدينا الطربوش فى اليوم التالى بنصف فرنك. (المازنى)

الأحد، 5 يونيو 2011

من سينما الحياة

سُرقت في طفولتى. سرقتنى جارية سوداء لامعة كالفحم "السكوك"، وكنت ألعب أمام البيت، فاحتملتنى ومضت بى، ولم يفزعنى وجهها الأسود فأرحت رأسى على كتفها ونمت، وقد استردنى أهلى على ما يزعمون، ومن أدرانى أنهم لم يغلطوا؟ من أين لى أن أعلم أنى أنا ذلك الطفل الذى خطفته الجارية بعينه، لا طفل آخر شبيه به، ففى حقيقتى شك كما ترى كما فى كل الحقائق الأخرى.
وليتنى أهتدى إلى هذه الجارية الطيبة القلب التى رأت أنى جدير بأن أخطف! إذًا لقبلتها بين عينيها وأسندت رأسى إلى صدرها وبكيت شكرًا لها وإعجابًا بذوقها. ولكن هذا لا سبيل إليه حتى لو أنها لا تزال على ظهر الأرض أو قيد الحياة كما يقولون، غير أن مالا يدرك كله لا يترك كله، أريد أن أقول: إنه إذا كان قد فاتنى أن أفضى إلى هذه الجارية بما يجن صدرى لها، فقد وجدت أنها عاطفة قابلة للتحويل، ومن أجل ذلك لا أضن على أية جارية بما هو من حق تلك التى لا سبيل إليها...
وقد غلطت مرة فشرحت هذه النزعة لزوجتى بأوفى ما يدخل فى طوقى من البيان، فكان تعليقها بعد أن أصغت إلى إصغاء محمودًا أكبرته وشكرته:
"كان يجب إذًا أن تتزوج جارية! ومع ذلك لم تضع الفرصة فلا يزال هذا فى وسعك".
وتركتنى وحدى فى الغرفة، فذهلت ولم أفهم، وعجبت لقدرة المرأة على تصور المسائل مقلوبة، وإداركها معكوسة.
ويتفق أحيانا أن نرى – أعنى زوجتى وأنا – جارية فيجيش صدرى وأحس كأن عواطفى المكتومة تكاد تنفجر أو تخنقنى، غير أنى أضبط نفسى وأكبحها، فإن إلى جانبى عينين محملقتين تنظران إلىَّ، والكبح تعذيب. وقد ضاق صدرى مرة فقلت لزوجتى:
"إنك مخطئة. مخطئة جدًا. وكل ما فى رأسك الصغير هذا، أوهام فى أوهام، ولو أنك كنت خطفتنى وأنا طفل لحفظت لك هذا الجميل ولبقيت طول حياتى شاكرًا لك هذه اليد بدلا من هذه الجارية التى أبحث عنها فلا أجدها والتى أحس أنى أراها فى كل جارية أخرى".
فتجهم وجهها وقالت: "وماذا أيضًا؟"
قلت: "لا شىء أنها عاطفة شكر طبيعية لا ضير منها على أحد".
قالت: "لو كنت خطفتك وأنت طفل؟! طبعًا! فإنى فى عمر جدتك أليس كذلك؟ لا بأس".
قلت: "ليس هذا ما أعنى! إنما أفترض حالة لأساعدك على تصورها".
قالت: "سامحك الله" ومضت عنى.
هذا والأمر لم يَعدُ الكلام، فكيف لو أنه اتفق أن أتيح لى أن أفيض على إحدى الجوارى مما أطوى عليه أضالعى لجنسها! إن مجرد التفكير فى هذا يرعبنى!.
(المازني 1932)

الأربعاء، 1 يونيو 2011

الجوانب الفكاهية فى الحياة

تميز المازنى فى الفترة الأخيرة من إبداعه بنوع خاص من الرضى الممزوج بالتمرد الساكن: رضى الفاهم للدنيا والعارف بناسها. أما التمرد الساكن فأعنى به التمرد الذى لا تخالطه ضجة أو ثورة فهو يأتى بالفكرة المتمردة بلا ضجيج أو ثورة، ومن هنا كان تأثير هذه الأفكار أعمق وأوسع. وكان يدير عينيه فيما كان فيرى أنه تخطى عقبات لم يكن يطمح فى اجتيازها، وأنه صبر على أشياء كانت تبدو له فوق طاقة الإنسان، وأنه قد وصل رغم كل شئ إلى الخاتمة بنجاح، وإذا كان الزمن قد نال منه وهدّ قواه، فقد أفاده صلابة وعزما وثقة فى النفس وجرأة على الحياة والمغامرة فيها، وقد أكسبته تلك المحن الاتزان واحترام النفس، ورحبت أفقه ووسعت نفسه وعمقتها، وعرفته بالقيم الحقيقية للأشياء، وحمته من أن يسرف على نفسه وعلى الناس فشرحت صدره لهم وعلمته التسامح الذى مبعثه الفهم وصحة الإدراك، وأرضته عن الحياة فصار يتلقاها كما تجئ لأنه من العبث الاحتفال بما لا حيلة للمرء فيه، وتساوت عنده كل حالة وتعادل عنده السرور والحزن والضحك والبكاء، والفوز والخيبة (الأعمال، مج 1 مقال تأملات عابر سبيل). وما دامت الحالات قد تعادلت عنده فلماذا لا يلتمس السرور وينشد النعيم ويجتنب المنغصات والمتعبات. ومن هنا كلفه فى هذه الفترة بتتبع صور الحياة المسلية. وكان يجد سعادته فى إسعاد غيره أو إدخال السرور على نفس مظلمة. يقول: "وإنه ليسعدنى أن أتوهم أنى استطعت إسعاد غيرى ولو دقائق معدودات وقد أكون واهمًا ولكنه وهم جميل ، بل جليل، وأنه الذى يغرينى بتلمس الجوانب الفكاهية فى الحياة"( الأعمال، مج 1 كتاب قصة حياة). "(د. حيدر)

نشر أعمال المازني

مرت عملية نشر أعمال إبراهيم عبد القادر المازنى - حتى الآن - بمرحلتين أساسيتين.
مرحلة أولى انجزها المازنى نفسه بدأها بنشر "ديوان المازنى - الجزء الأول" (1913)، ثم الكتابات النقدية "شعر حافظ" (1913) و"الشعر غاياته ووسائطه" (1915)، ثم نشر الجزء الثاني من ديوان المازني (1916)، ثم توقف عن نظم الشعر تقريبا عام 1920 ولكنه واصل نشر كتاباته النقدية حيث نشر مع بدء عمله الصحفى بعد ثورة 1919 (بالاشتراك مع العقاد) "الديوان فى الأدب والنقد" (1921) ثم "حصاد الهشيم" (1925) و "قبض الريح" (1927).
فى عام 1928 بدأ المازنى مرحلة الإبداع القصصى؛ حيث اهتم بجمع أعماله القصصية والروائية، بينما امتنع عن نشر الكتب النقدية، وإن لم يمتنع عن مواصلة كتابة المقالات النقدية. وقد نشر فى هذه المرحلة: "صندوق الدنيا" (1929)، "إبراهيم الكاتب" (1931)، "خيوط العنكبوت" (1935) ونشر مسرحية واحدة هى "غريزة المرأة" أو "حكم الطاعة" (1931).
وفى عامى 1935 و1937 نشر على التوالى مجموعتى "خيوط العنكبوت" و"فى الطريق" وامتنع عن نشر المجموعات حتى عام 1944 حيث نشر مجموعته الأخيرة "ع الماشى". ونشر فى عام 1943 عدة روايات هى "عودٌ على بَدء" فى إبريل ، و"إبراهيم الثانى" فى يونيه، و"ميدو وشركاه" فى يونيه أيضاً. أما "ثلاثة رجال وامرأة" فقد صدرت فى يناير من عام 1944. وبعد وفاته فى أغسطس 1949 صدرت روايته القصيرة "من النافذة".
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الأعمال المشوهة للمازني التي شارك فيها بعض أهله. ففى الذكرى العاشرة لوفاة المازنى بدأت "الدار القومية للطباعة والنشر" بمعرفة أسرة المازني فى إحياء ذكرى المازنى بإعادة طبع بعض أعماله السابقة، وجمع بعض الأعمال غير المنشورة. ورغم أن الدار قد أحسنت بجمع ونشر بعض الأعمال غير المنشورة مثل: "قصة حياة" (1961) و"أحاديث المازنى" (1961)، إلا أنها شوهت أغلب الأعمال التى أعادت نشرها. ربما كان السبب أن لكتب الدار حجمًا معينًا ومن ثم فقد تم تعديل (تشويه) هذه الأعمال بطريقة منظمة، حتى تناسب الحجم المقرر لها مسبقًا. والمشكلة هى أن أغلب الطبعات التالية (على سبيل المثال طبعة دار الشروق لبعض أعمال المازنى) اعتمدت - ربما بسبب الكسل - على هذه الطبعة المشوهة وكأنها الأصل الذى نشره المازنى فى حياته!
وفي سبيل إخراج أعمال المازنى الكاملة قمت بتحديد هذا التشويه وإزالته، وتتبعت كل ما نشره المازنى لجمعه وتوثيقه وإصداره كما بينت في مقدمة أعمال المازني الكاملة التي رتبت مجلداتها على أساس موضوعي والتزمت داخل كل مجلد بالترتيب التاريخي لنصوص المازني. (د. عبد السلام حيـدر)