الثلاثاء، 17 أبريل 2012

هومر ومصر

أشهر شعراء الاغريق هومر كما لا أحتاج أن أقول؛ وقد قرأت ترجمتين انجليزيتين له وحطمت رأسى بهما، وأعترف أنه لم يروقنى منه إلا القليل، ولكن كنت أخشى أن أجاهر بهذا الرأى لئلا يقول عنى إخوانى إن ذوقى فاسد أو إن بى نقصًا فى الاستعداد الأدبى، أما الأن فإنى استطيع أن أجهر بذلك وأن لا أخشى تهمًا كهذه. على أنى لا أذكر هومر الأن لأقول رأيى فيه، بل لأروى قصتين صارتا الأن معروفتين: الأول أن الأدب الغريقى كان فى العصور الوسطى مجهولاً أو مدفونًا، وكان لا يعرفه إلا الرهبان الذين احتفظوا بنسخ منه ضنوا بها على النشر والإذاعة، لأنه أدب وثنى، وفيما عدا هؤلاء الرهبان لم يكن أحد يعرف شيئًا لا قليلاً ولا كثيرًا عن الأدب الأغريقى، فكان من سخرية الأقدار أن الرجل الذى رد إلى العالم هومر فى القرن الرابع عشر كان سكيرًا نصابًا وشريرًا كبيرًا، وأن الرجل الذى حمله على ترجمة هومر كان من أبرع كتاب النهضة، وأن الرجل الذى آلى على نفسه أن يعمل على نشر جمال الأدب الأغريقى فى العالم كان لا يعرف حرفًا واحدًا من اللغة الاغريقية. هؤلاء الثلاثة الذين جمعهم الحظ هم بلاتس Pilatus وبكاكشيو Boccaccio وبترارك Petrarch.
فأما أولهم فكان مغامرًا يؤثر أن يستخفى لأسباب لعل البوليس أعرف بها، وكان قذرًا كثير الشعر دميم الخلقة، ولكنه كان يعرف اللغة الاغريقية فجاء به بوكاكشيو وأنزله عنده ضيفًا فبقى ثلاث سنوات. أما بوكاكشيو فمعروف مشهور، وهو عندى أنبغ نوابغ الايطاليين، ولكنه كان ساذجا وكان لا يعرف قدر نفسه، وكان عظيم التوقير لبترارك، حتى لقد صار فى آخر حياته يخجل لأنه كتب ما كتب باللغه الايطاليه العاميه لا باللاتينية. وأما بترارك فقد اقتنع لسبب لا نعرفه بأن المخرج الوحيد من السوء الذى يراه فى زمانه هو إحياء درس الأدب الاغريقى، ويظهر أنه كان هناك اعتقاد بأن هذا الأدب المقبور هو القادر وحده على حل المشاكل التى كانت تواجه العالم فى ذلك الزمان، وهكذا عرف الناس هومر بعد أن قبره الزمن عدة قرون.
ومن المحقق أن هومر كان يعرف الأساطير المصريه وأنه استعان بها فى قصيدته - الألياذة والأوديسية - وأحسب أن كثيرين قرأوا البحوث التى نشرها الأستاذ عبد القادر حمزة وأثبت فيها - استنادا إلى ما وقف عليه وكشف عنه العلماء بالآثار المصريه والتاريخ المصرى القديم - أن هومر أخذ كل العقائد وكل القصص من المصريين. والمصريون كما لا احتاج أن أقول - أسبق بآلاف السنين لا بمئاتها فقط، وهم الذين نشروا فى العالم القديم العقائد التى لا تزال باقية إلى اليوم. وهم أول من فكر فى الروح والآخرة والحساب والعقاب. وقد ذهبت مدنيتهم ولكن آثارها بقيت وهى على قلتها كافية للدلالة على حضاراتهم. وقد نشر الأستاذ عبد القادر حمزة النصوص، وأثبت منها أن هومر أخذ قصصه من مصر وأن كل ما فعله هو تغيير الأسماء وقلبها إغريقية. وأنا أزيد على ذلك أن هيرودوت يقول عن هومر كلمة لها مغذاها، ذلك أنه يصف عمله بأنه "تنظيم" ويقول عنه فى موضع آخر إنه وضع "إطارًا" للقصص، وفى موضع آخر أيضًا إنه "جمع". ومعنى هذا أنه كان معروفًا أن هومر لم يبتكر قصصه وإنما جمعها ورتبها ونظمها. ويظهر أنه كانت هناك روايات متعددة مختلفة وأن هومر شعر بالحيرة بينها ولم يدر أيها يؤثر: الرواية المصرية أم الروايات المشوهة التى شاعت فى أسبارطة وأثينا وفى غيرهما؟ ولهذا اضطرب ولم يستقر على رأى فى أيهما هو البطل - هكتور أو أخيل - ويرجح بعضهم أنه لحيرته بين الروايات المختلفة أعد نصين، واحدا ينشده على الجانب الأسيوى والأخر ينشده على الجانب الأوربى. على أن المهم أن هومر أخذ موضوعه كله بكل ما انطوى عليه من مصر، فلولا مصر لما كان هومر. وأحسب أن الدنيا ما كانت حينئذ تخسر شيئًا فقد أصبح هومر اسمًا لا أكثر" (المازني 1937)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق