الجمعة، 20 يوليو 2012

الإيمان بالخير فى الدنيا

جربت الفقر بعد موت أبى وكان فى حياته مسرفًا ولكنه ترك لنا مالا أتى عليه أخ "كان" أكبر منى – وأقول كان لأنه لحق بمن عبر – فكدنا نلصق بالتراب من شدة الفاقة، وكان لا بد أن نأكل ونشرب ولا بد أن نتعلم أيضًا، وكانت أمى تبيع ما عندها من الحلى وما إلى ذلك لتنفق علينا واخونا لاه عنا بتضييع مالنا وكنت أنظر إلى الجهد الذى تتجشمة أمى فى تدبير الأمر، وإلى حال أخى ولهوه فأحس باليأس من الخير فى الطبيعة الإنسانية، ويخامرنى من المرارة ما يكاد يفيض على لسانى، إلى أن كان يوم أسود بلغ الضيق والكرب فيه ما لا سبيل بعده إلى الاحتمال، وإنى لواقف فى ساحة البيت وظهرى إلى الحائط وعينى إلى الأرض وإذا بشيخ من العلماء أعرفه كان صديقًا لأبى وزميلاً له وتلميذًا لجدى فى طلب العلم فأححست بقلبى يهبط إلى حذائى وأنا اتقدم إليه لأحييه وأرحب به، فما كان فى البيت حبة من البن أو قطعة من السكر – ولا غيرهما أيضًا – ودار رأسى وأنا أفكر فى فضيحتنا مع هذا الضيف الكريم الذى لا نملك الطعام والشراب ما نكرمه به. ودعانى أن أصعد إلى جدتى وأن أقرئها سلامه وأن استأذن له عليها فقد كان كابنها وكان يلازم جدى أيام التحصيل والطلب. وجلس إليها وأقبل عليها يسألها عن الصحة والحال وهى تحمد الله الذى لا يحمد على المكروه سواه. وأنا واقف أنظر ولا أكاد أرى أو أعى شيئًا وإذا بى اسمعه يقول لها إن "الأفندى" – يعنى أبى – كان قد ترك معى قبل موته مالا مخافة أن يبقى معه فينفقه وكان فى نيته أن يعطيه غيره وغيره لاحفظه له أيضًا ثم يشترى بها أرضًا أو عقاراً ولكن أجله وفاه قبل أن يتيسر ذلك فبقى المال عند هذا الشيخ الجليل لا يعلم به أحد وقد خاف الشيخ أن يموت فيضيع على ذوى الحق حقهم فهو يريد أن يرده إلينا لتبرأ ذمته. وقد عشنا بهذا المال حتى استطعت أن أكسب رزقى بعرق جبينى. وكانت هذه الحادثة هى التى ردت إلى نفسى الإيمان بالخير فى الدنيا. ولم نصبح بهذا المال أغنياء ولكنه كان حسبنا مع حسن التدبير. (المازني 1928)

الثلاثاء، 17 أبريل 2012

تاييس وهايبيثيا


"أعارنى صديقى الأستاذ العقاد يومًا قصة "تاييس" لأناتول فرانس فقراتها بلهفة فقد استطاع المترجم الإنجليزى أن يحتفظ بقوة الأسلوب وتحدره وبراعة العبارة وسحرها. ومضت بضعة شهور ثم دفع إلى الأستاذ العقاد رواية "هايبيثيا" للكاتب الإنجليزى "تشارلز كنجزلزى" فقرأتها أيضًا، ثم سألنى: ما رأيك؟ قلت: غريب. قال: إن الروايتين شىء واحد. قلت: صحيح.
والواقع إن الروايتين شىء واحد وأن تاييس مأخوذة من هايبيثيا بلا أدنى شك. وفى وسع من شاء أن يقول إن أناتول فرانس ما كان يستطيع أن يكتب - أو ما كان يخطر له أن يكتب روايته لو لم يسبقه تشارلز كنجزلزى إلى الموضوع. ذلك أن تاييس فى رواية أناتول فرانس هى هايبيثيا فى روايه كنجزلزى. والعصر هو العصر والبلاد هى البلاد، وكل ما هنالك من الاختلاف هو أن أناتول فرانس أستاذ فنان، وأن تشارلز كنجزلزى أستاذ مؤرخ، وأنا مع ذلك أفضل رواية هايبيثيا وأراها أكبر وأعمق وأملأ للنفس وأمتع للعقل، فما لأناتول فرانس فى تاييس غير براعة الأسلوب وحلاوة الفن، ولكن الصور فى رواية هايبيثيا أتم وأصدق، والشخصيات أكثر ورسمها اقوى وأوفى والموضوع أحفل. وفى وسعى أن أقول بلا مبالغة إنها تعرض عليك عالمًا تامًا لا ينقصه جانب واحد من الجوانب، أما تاييس فليست سوى لمحة خاطفة من هذا العالم.
وتشارلز كنجزلزى يرسم لك الحياة فى تلك الفترة من تاريخ مصر بكل ما أنطوت عليه ويريك الناس والأشياء والعادات والأخلاق والآراء والفلسفات الشائعة والفردية بدقة وأمانة، أما أناتول فرانس فيرسم لك بقلمه البارع خطوطًا سريعة تريك ما وقع فى نفسه من ذلك العصر، فهو أشبه بالمصورين الذين يجرون على طريقة الامبرشنزم أى الذين يصورون وقع المناظر فى النفس لا المناظر كما هى فى الحقيقة والواقع" (المازني 1937)

الملحمة المسروقة

دع كل هذا لأنه كما قلت من التوافه وأثب إلى ميلتون الشاعر الإنجليزى المشهور، وأعترف أنى لا أحبه وأنى ما استطعت فى حياتى أن أقرأ له قصيدة مرتين. وأشهر ما لملتون قصيدة "الفردوس المفقود" وأختها "الفردوس المستعاد" والأولى لا الثانية هى التى تقوم عليها شهرته. وهذه يقول النقاد إن من المعروف أنها عبارة عن جملة سرقات من إيسكلاس ودافيد وماسينياس، وفوندل وغيرهم. ولكنه لم يكن معروفًا إن الفردوس المفقود كله - موضوعه ومواقفه وعباراته أيضًا - مترجمه ترجمه حرفيه عن شاعر إيطالى مغمور كان معاصرًا لملتون. لم يكن هذا معروفًا حتى اهتدى إليه "نورمان دوجلاس" فقد اتفق له أن عثر على نسخه وحيده من رواية "أدامو كاروتو" Adamo Caruto لمؤلفها "سرافينو ديللا سالاندرا" Serafino Della Salandra وهذه الروايه وضعت فى سنة 1647.
فالموضوع ماخوذ برمته كما أثبت ذلك نورمان دوجلاس. ويقول برتون راسكو: "إن هذا ليس كل شىء ويحيل القارىء على كتاب اسمه "أولد كالابريا" - كالابريا القديمة - ويؤكد أنه يؤخذ منه أن ملتون ترجم قصة سالاندرا حرفًا بحرف وأن ما ليس مترجمًا عن سالاندرا مترجم عن غيره من الشعراء القدماء.
والذى يجعل الأمر اغرب أن ملتون قد أعلن قبل ذلك عزمه على نظم قصة خالدة لا يسمح للناس بأن يدعوها تموت وتقبر، ويعنى بها "الفردوس المفقود". وبعد أن أعلن عزمه هذا بسط لسانه فى كل الشعراء الإنجليز الذين تقدموه مثل سوشر وسبنسر و سكشبير ومارلو وجونسون ووصفهم بأنهم صناع آليون، وانتقد هومر وفرجيل وتاسو وعاب شعرهم. ويعلل نورمان دوجلاس اهتداء ملتون إلى قصة سالاندرا بأن ملتون لقيه فى رحلته إلى إيطاليا، وأن سالاندرا يرجح أن يكون أعطاه نسخة من قصته عسى أن يعينه على ترجمتها إلى الإنجليزية. ويقول إن ملتون كان له أصدقاء يراسلونه من إيطاليا وإنه قابل جروتياس Gratius فى باريس وجاليليو Galelio فى فلورنسا وإنه يحتمل أن يكون هذان قد أعطياه نسخة من القصة لما نشرت بالإيطاليه. والمحقق على كل حال أن قصيدة "الفردوس المفقود" نسخة طبق الأصل من قصيدة سالاندرا الإيطالى" (المازني 1937)

هومر ومصر

أشهر شعراء الاغريق هومر كما لا أحتاج أن أقول؛ وقد قرأت ترجمتين انجليزيتين له وحطمت رأسى بهما، وأعترف أنه لم يروقنى منه إلا القليل، ولكن كنت أخشى أن أجاهر بهذا الرأى لئلا يقول عنى إخوانى إن ذوقى فاسد أو إن بى نقصًا فى الاستعداد الأدبى، أما الأن فإنى استطيع أن أجهر بذلك وأن لا أخشى تهمًا كهذه. على أنى لا أذكر هومر الأن لأقول رأيى فيه، بل لأروى قصتين صارتا الأن معروفتين: الأول أن الأدب الغريقى كان فى العصور الوسطى مجهولاً أو مدفونًا، وكان لا يعرفه إلا الرهبان الذين احتفظوا بنسخ منه ضنوا بها على النشر والإذاعة، لأنه أدب وثنى، وفيما عدا هؤلاء الرهبان لم يكن أحد يعرف شيئًا لا قليلاً ولا كثيرًا عن الأدب الأغريقى، فكان من سخرية الأقدار أن الرجل الذى رد إلى العالم هومر فى القرن الرابع عشر كان سكيرًا نصابًا وشريرًا كبيرًا، وأن الرجل الذى حمله على ترجمة هومر كان من أبرع كتاب النهضة، وأن الرجل الذى آلى على نفسه أن يعمل على نشر جمال الأدب الأغريقى فى العالم كان لا يعرف حرفًا واحدًا من اللغة الاغريقية. هؤلاء الثلاثة الذين جمعهم الحظ هم بلاتس Pilatus وبكاكشيو Boccaccio وبترارك Petrarch.
فأما أولهم فكان مغامرًا يؤثر أن يستخفى لأسباب لعل البوليس أعرف بها، وكان قذرًا كثير الشعر دميم الخلقة، ولكنه كان يعرف اللغة الاغريقية فجاء به بوكاكشيو وأنزله عنده ضيفًا فبقى ثلاث سنوات. أما بوكاكشيو فمعروف مشهور، وهو عندى أنبغ نوابغ الايطاليين، ولكنه كان ساذجا وكان لا يعرف قدر نفسه، وكان عظيم التوقير لبترارك، حتى لقد صار فى آخر حياته يخجل لأنه كتب ما كتب باللغه الايطاليه العاميه لا باللاتينية. وأما بترارك فقد اقتنع لسبب لا نعرفه بأن المخرج الوحيد من السوء الذى يراه فى زمانه هو إحياء درس الأدب الاغريقى، ويظهر أنه كان هناك اعتقاد بأن هذا الأدب المقبور هو القادر وحده على حل المشاكل التى كانت تواجه العالم فى ذلك الزمان، وهكذا عرف الناس هومر بعد أن قبره الزمن عدة قرون.
ومن المحقق أن هومر كان يعرف الأساطير المصريه وأنه استعان بها فى قصيدته - الألياذة والأوديسية - وأحسب أن كثيرين قرأوا البحوث التى نشرها الأستاذ عبد القادر حمزة وأثبت فيها - استنادا إلى ما وقف عليه وكشف عنه العلماء بالآثار المصريه والتاريخ المصرى القديم - أن هومر أخذ كل العقائد وكل القصص من المصريين. والمصريون كما لا احتاج أن أقول - أسبق بآلاف السنين لا بمئاتها فقط، وهم الذين نشروا فى العالم القديم العقائد التى لا تزال باقية إلى اليوم. وهم أول من فكر فى الروح والآخرة والحساب والعقاب. وقد ذهبت مدنيتهم ولكن آثارها بقيت وهى على قلتها كافية للدلالة على حضاراتهم. وقد نشر الأستاذ عبد القادر حمزة النصوص، وأثبت منها أن هومر أخذ قصصه من مصر وأن كل ما فعله هو تغيير الأسماء وقلبها إغريقية. وأنا أزيد على ذلك أن هيرودوت يقول عن هومر كلمة لها مغذاها، ذلك أنه يصف عمله بأنه "تنظيم" ويقول عنه فى موضع آخر إنه وضع "إطارًا" للقصص، وفى موضع آخر أيضًا إنه "جمع". ومعنى هذا أنه كان معروفًا أن هومر لم يبتكر قصصه وإنما جمعها ورتبها ونظمها. ويظهر أنه كانت هناك روايات متعددة مختلفة وأن هومر شعر بالحيرة بينها ولم يدر أيها يؤثر: الرواية المصرية أم الروايات المشوهة التى شاعت فى أسبارطة وأثينا وفى غيرهما؟ ولهذا اضطرب ولم يستقر على رأى فى أيهما هو البطل - هكتور أو أخيل - ويرجح بعضهم أنه لحيرته بين الروايات المختلفة أعد نصين، واحدا ينشده على الجانب الأسيوى والأخر ينشده على الجانب الأوربى. على أن المهم أن هومر أخذ موضوعه كله بكل ما انطوى عليه من مصر، فلولا مصر لما كان هومر. وأحسب أن الدنيا ما كانت حينئذ تخسر شيئًا فقد أصبح هومر اسمًا لا أكثر" (المازني 1937)