الأحد، 4 سبتمبر 2011

جسد على المجاز

أعمل كالحمار بالليل والنهار وأكتب فى اليوم الواحد فصولاً ثلاثة أو أربعة لأكثر من صحيفة واحدة. وأقطع بالسيارة أكثر من خمسين كليو فى نهارى. وأسهر إلى منتصف الليل. ثم أقوم فى الفجر مع الديكة والعصافير وأقصد إلى مكتبى وأروح أدق على آلة الكتابة حتى لقد غير جارى غرفة نومه لكثرة ما أزعجه وأطير النوم عنه فى الصباح الباكر.. وأنا أجالس الناس وأحادثهم وأفعل ما يفعله المرء بشبابه ولا أرانى أكل أو أهى أو أمل أو أفتر.. وإن رأسى لدائب لا يكف عن العمل فى يقظة أو نوم. ولو كنت أقيد ما يدور فى نفسى لوسعنى أن أملأ الدنيا كلامًا، ولكن المصيبة أنى لا أقيد شيئًا وأنى أنسى. فالذى يبقى لى لا يعد جزءًا من مائة مما يخطر لى.
ولقد قال لى مرة طبيب حاذق شكوت إليه أنى لا أهدأ - إن بنائى كله من الأعصاب، وأن جسمى ليس أكثر من شبكة أعصاب ركبت لها العظام لتمسكها ووضع لى هنا قلب وهناك معدة إلى آخر ذلك، ثم كسى هذا كله جلدًا رقيقًا ليمكن أن يقال إن هذا جسم إنسان، ولكن المهم هو هذه الأعصاب، فإذا كنت أشكو شيئًا فى بعض الأحيان فيحسن بى أن أعرف أنه من الأعصاب ليس إلا "فأرحها حين تتعب تعد كما كانت فإنها متينة. وأكبر الظن أن هذه ليست أعصابًا وإنما هى "جنازير من الحديد" ويكفى أنها تتحملك".
كذلك قال ودليل صدقه أنى لم أشك شيئًا قط منذ سمعت منه هذا، ولو كان بى شىء غير هذه الأعصاب لما نفعنى كلامه. ولقد خرجت من عنده إلى صيدلية فيها ميزان فوقفت عليه فإذا بى بثيابى الشتوية لا أزن أكثر من سبعة وأربعين كيلو، فضحكت وقلت "كم ترى يكون وزنى فى الحمام بغير هذه الثياب.. أو فى الصيف الذى يستدعى التخفيف.. صدق الطبيب الحاذق فما هذا بجسم إلا على المجاز.. ولكن هذا البناء الواهى يحتمل النوم على الرمال وتوسد الحجارة. نعم فإنى كثيرًا ما أخرج إلى الصحراء فأرتمى على رمالها ساعة وساعتين وتحت رأسى حجر صلد كبير، وفى بيتى أترك الفراِش الوثير إلى الكراسى الخشنة التى لا راحة لمخلوق عليها.. وأفتح النوافذ وأقعد أو أنام بين تيارات الهواء ولا أرى ذلك يضيرنى. وأحسب هذا وراثة، فقد كانت أمى رحمها الله تنام وأنفها إلى النافذة المفتوحة- صيفًا وشتاءً. نعم أزكم أحيانًا ولكن الفيل يزكم.. وساقى مهيضة ولكن لا أتعب من المشى وإنما أتعب من الوقوف.. ولم أتخذ المدافىء قط. فإذا أوقدوا فى بيتنا نارًا تركت لهم الغرفة إلى أخرى لا نار فيها.. وما لبست معطفًا إلا فى أعقاب مرض وعلى سبيل الوقاية إلى حين.. وإنى لأرى مناعة جسمى تزداد عامًا فعامًا وأرانى كلما علت سنى أحس إنى صرت أقوى وأصح بدنًا وأقدر على العمل والحركة والجهد..

ذكر الحب والاعتراف به

"كان التحرج شديدًا فى الجيل الماضى من ذكر الحب والاعتراف به أو المجاهرة به، لأن التقاليد كانت صارمة وكان لها معين من الدين لا يستهان به، وكانت الجماعة تنزع إلى الاحتشام. وكانت قاعدة الحياة من هذه الناحية المثل المشهور "إذا بليتم فاستتروا" فكانت معاقرة الخمر علي قارعة الطريق ممنوعة لا بحكم القانون بل بقضاء العرف، وكان الشبان مثلاً يستحيون أن يجلسوا فى القهوات، وكان النساء يتحجبن ويحرصن على ستر زينتهن، ولم يكن اتصال شاب بفتاة من الهينات، ثم جاءت الحرب فرجت الدنيا، وزلزلت قواعد الحياة فيها، وانتشر التعليم، وشاع الاطلاع على الآراء الحديثة فى الأمور الجنسية، وهدمت الهبة القومية المصرية حواجز كثيرة وفى جملتها ما كان يفصل الجنسين ويفرق بينهما، وصار الناس -شيئًا فشيئًا - يلهجون بذكر الحب ويتناولونه فى مجالسهم وفى كتاباتهم تناولاً هو أقرب ما يكون إلى البحث العلمى، ولم يعد الشبان- بسبب نشأتهم والجو الجديد المحيط بهم ينظرون إلى الحب وما يتعلق به كما كان آباؤهم يفعلون أو يرون فى الأمر موجبًا للحماسة أو داعيًا للخجل أو باعثًا على الاستحياء. وجاء التطور الاجتماعى ولا سيما فيما يتعلق بإمكان ضبط النسل هادمًا لحاجز منيع بين الرجل والمراة. وفى الأمثال إن الشجرة تعرف من ثمارها؛ فإذا لم تكن ثم ثمرة فأين الشجرة؟ وضعف العرف وتفككت قيوده وحصل التمرد عليه فى سبيل الحرية كما حصل التمرد على كل قيد آخر. ومن أخطار الحرية فى بادىء الأمر أن الناس يطلبون الحقوق وينسون الواجبات التى تقابل الحقوق. والتوازن لا يعود إلا ببطء وبعد التحارب الطويلة والمعاناة المرة والدروس العملية الأليمة. وبذلك فقد الحب الهالة التى كانت حوله وسلب القداسة القديمة، وصار على الأيام أمرًا عاديًا، وهوى إلى مرتبة الرقص والألعاب الرياضية، لأن وطأة العرف والتقاليد ضعفت وخفت جدًا حتى ليمكن أن يقال أنها غير محسوسة فى الأغلب والأعم. وفى مثل هذه الأحوال التى يعظم فيها الترخص والتسامح يندر الحب القوى العميق الطويل العمر" (المازني 1937)