"كنا ثلاثة أو أربعة لا نكاد نفترق. ولم نكن فى مدرسة واحدة ولكنا كنا نلتقى بعد المدرسة فى بيت أحدنا ومعنا كتبنا أو بعضها فنتبادل الدروس التى تلقناها فى يومنا، ثم نمضى إلى قصر النيل أو غيره -على أرجلنا - فإذا كان اليوم يوم خميس ركبنا زورقا على النيل. وكان أبو أحدنا رجلاً فيه شذوذ، فكان يتفق أن يجىء إلى بيتي ويقف فى الفناء الرحيب تحت الجميزة ويصفق، حتى إذا شعر أن أحدًا أطل من النوافذ العليا كف عن التصفيق وانطلق يصيح: "يا أهل عبد القادر.. حوشوا ابنكم عن ابني.. أفسد أخلاقه وعلمه السهر إلى الساعة اثنين" فيخيل لمن يسمعه يصيح أننا نسهر إلى الساعة الثانية صباحا أى بعد منتصف الليل، ولكنه كان يعني الساعة الثانية بالحساب العربى: أى العشاء أو بعد ذلك بقليل... " (المازني 1937)
الخميس، 29 ديسمبر 2011
البنطلون القصير
"فى صغرى كنت لا أقبل أن ألبس هذا البنطلون القصير... كان أخى الأكبر يأخذنى قبيل افتتاح المدارس إلى محل "ماير"، وكان أشهر محلات الثياب فى تلك الأيام. فيعرض علىَّ البائع أمثال هذا البنطلون فأقول لأخى: هذه سراويل لا بنطلون، وآبى كل الإباء أن أتخذها، وأصر على البنطلون الطويل فيضحك أخى ويقول للبائع:
"هات له بنطلونًا طويلاً.. إنه يريد أن يكون رجلاً ويحس أنه رجل، فلا داعى للتنغيص عليه"..
كنت فى التاسعة من عمرى يومئذ" (المازني 1937)
جلدى السميك
"لست مجنونا حتى أقف على شاطىء البحر وأنظر إلى الفتيات الناهدات، الرشيقات، المشوقات، وهن يخرجن من الماء وقد لصق بأبدانهن القليل الذى عليها، فإنى محتاج إلى عقلى كله.
ولكنى أحسب الفاضل الذى كتب إلى يدعونى إلى ذلك، يدرك أن الأمر هنا أشبه بأن يكون أمر اشتهاء، لا حب، وخليق بالمرء وهو ينظر إلى هذه الفتنة المجتمعة، أن تدركه الحيرة، وأن يزوغ بصره، فلا يعود يدرى أى هؤلاء الجميلات أولى بحبه، فان لكل جسم فتنة، ولكل محيا سحره.
ولو أنى وقفت على البحر لكان الأرجح أن أحب هؤلاء جميعًا، جملة، وأن أشتهى أن أضمهن كلهن فى عناق واحد، فان الظلم قبيح. ونفسى لا تطاوعنى على غمط الجمال فى أية صورة من صوره.
ومن يدرى... لعل القدرة على إدراك معانى الجمال فى مظاهره المختلفة هى التى وقتنى الحب، ومنعت أن أعشق واحدة على الخصوص أجن بها. ولكنى لست واثقا أن هذا كهذا، وإن كان يحلو لى أن أغر نفسى به والأرجح أنها بلاده، وإن جلدى سميك" (المازني 1937)
سخافة المساحيق
"المرأة تطلب الزينة، لأن طبيعتها تقضى عليها بذلك حتى لو كان الرجال لا يرتاحون إلى هذه الماسيق المختلفه الألوان. ولو ظللت تنهى المرأة عن ذلك طول العمر لما انتهت إلا إذا كانت هى تزهد فى المحسنات من تلقاء نفسها أو تضطر إلى الزهد لمرض جلدى أو نحوه...
وأحمد الله الذى أعفانى وأراحنى من سخافة المساحيق، فإن زوجتى لا تتخذها. فليس فى بيتى ذرة من الأحمر أو الأبيض. ومن القواعد المقررة عندنا أن على من تزورنا من قريباتنا أو من هنّ فى حكمهن لتقض يومًا أو أيامًا معنا، أن تجىء معها بمساحيقها. فلن تجد حتى ولا ما يُنفَضُ على الوجه بعد حلاقة الذقن. وأحسب أن زوجتى اطمأنت إلى عجز فريستها عن النجاة فهى لا تعنى الآن بشىء من هذه المزيفات" (المازني 1937)
الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011
حمار جدى
"كان لجدي أعزكم الله حمار وكان - أعنى جدي لا الحمار - عالمًا من علماء الأزهر. فكان يركبه فى كل صباح - أو كل فجر إذا أردتم الدقة - إلى مسجد الحسين، حيث كان يلقى درسه ثم يعود فيركبه بعد الفراغ من دروسه وصلواته إلى البيت. فاعتاد الحمار ذلك وألفه وصار يعرف الطريق وحده، ولا يحتاج إلى يد تلوى اللجام إلى اليمين أو الى اليسار. وألف جدي كذلك أن يمتطى حماره ويقول باسم الله ويمد يده إلى صدره - تحت القفطان - فيخرج الغيبرة - أى ملزمة أو ورقات من الكتاب الذى يدرسه، ويروح يقرأ والحمار سائر على مهل لا يخطئ الطريق أو يحيد عنه إلى سواه حتى يبلغ جدي المسجد فيقف - أى الحمار - فيتنبه جدي ويطوى الورقات ويدسها فى عبه، ويترجل ويترك الحمار أمام باب المسجد بلا قيد، حتى يخرج فيجده حيث تركه، فيركبه مرة أخرى فينطلق به إلى البيت بسرعة لأن كليهما جاع" (المازني 1937)
سمك لبن تمرهندي
"أتفق أنى كنت مرة فى لندن ضيفًا على بعض من عرفتهم هناك، فكان مما قدم إلى فى صباح يوم مع الشاى واللبن وغيرهما سمك فشرعت أشرب وآكل ثم تذكرت فجأة أن اليوم يوم الأربعاء، وأننا نقول فى مصر إن من أكل سمكًا وشرب لبنًا فى يوم أربعاء طار عقلة وجن. واعترف أنى أشفقت من عواقب الجمع بين اللبن والسمك فى ذلك اليوم، ولكن السمك كان طيب النكهة وأنا جائع والبرد شديد، واستحييت أن أذعن لقضاء الوهم وحكم الخرافة، فأكلت وأنا أعزى نفسى وأهون عليها بأن الجنون لا ينقصنى، ولا أحتاج أن أقول أنه لم يصيبنى سوء، وأنى مازلت سليم العقل ومع ذلك من يدرى؟.. أليس السكران هو الذى يتوهم أن الناس جميعًا سكارى ما عداه؟" (المازني 1937)
سخافة الرجال
"سخافة الرجال تظهر فى ثلاثة أمور:
الأول أنهم يتكلفون عناءً شديدًا ليتسلقوا الشجر ويقطفوا الثمر؛ ولو صبروا وأراحوا أنفسهم وجلسوا ينعمون بالظل تحت أفنان الشجرة لألقت إليهم بثمرها فى أوانه.
والثانى أنهم يذهبون إلى الحرب ليقتل بعضهم بعضا؛ ولو انتظروا لجاءهم الموت جميعًا.
والثالث أنهم يجرون وراء المرأة؛ ولو كفوا عن ذلك لجرت ورائهم المرأة" (المازني 1937).
قلة مبالاتى
"لم تهن علىّ الحياه، ولكنى مللت طول الحيرة التى يورثنيها النظر فى وجوهها وأضجرنى العجز عن الاهتداء والفهم، فنفضت يدى يائسًا وقلت فليكن ما يشاء الله أن يكون. ولأعش كما يتيسر لى أن أعيش والسلام، ولأدع عناء التفكير والنظر لمن أراد أن يحطم رأسه، فإنى أنا لا أشتهى هذا التحطيم، وقد جربته فلن أعود إليه. ومن هنا قلة مبالاتى. وماذا أبالى بالله؟" (المازني 1937)
الحياة كما أحب لا كما يجب
"أعيش الآن كما أحب لا كما يجب، فقد جاوزت الأربعين، والذى بقى لى من العمر ستفسده الشيخوخة المتهدمة لا محالة حين ترتفع بى السن فلا يبقى لى حينئذ من لذة الحياة إلا الوجود بمجرده لو أن هذا يفيد متعة، فمن حقى فى هذه الفترة - التى أرجو أن تطول قبل أن يدركنى الذوى والذبول - أن أعتصر من الحياة كل ما يدخل فى الطوق اعتصاره من المتع واللذاذات، فأنا أقرأ ما أشتهى، وأذهب إلى حيث أريد، وأجالس من آنس به، ولا أبالى مَن غضب ممن رضى، فما فى الحياة فسحة لمبالاة ذلك، وأطلق نفسى على السجية كلما وسعنى ذلك، وليس للناس علىَّ أكثر من أن أؤدى واجباتى فيما عدا هذا" (المازني 1937)
الحب اسمه غلط
"يخيل إلى أن الحب اسمه غلط، فإنه يبدو لى أن هذه العاطفة التى نسميها الحب خاليه فى الحقيقة من الحب، والعلاقة فيها بين الجنسين ليست علاقة مودة. وهذا كلام قد يبدو متناقضًا ولكنى أظنه صحيحًا، ذلك أن الحب ضرب من الجوع؛ ولا تقولوا أنه جوع معنوى فإن هذا يكون تخريفًا، اذ ليس ثم فيما يتعلق بالإنسان أو الحياة شيء معنوى. والإنسان مادة وكل مافى الحياة من المادة وإلى المادة، فلندع هذه الخيالات ولنجتزىء بالحقائق فإن أرضها صلبة متينة لا تسوخ فيها الرجل. والمرء يجوع فيشتهى الطعام أى يطلبه، لا لأنه يحب الطعام فى ذاته، ولا لأن بينه وبين ما يأكل مودة، بل ليسد الحاجة التى يشعر بها ويقضى الرغبة التى تلج به ولا يستطيع أن يهدئها بغير الأكل. وكذلك يجوع جوعًا من ضرب أخر - جوعًا يطلب به إرضاء الرغبة الطبيعية فى النسل إطاعة لغريزة حفظ النوع، كما يطلب بالأكل إطاعة لغريزة المحافظة على الذات. وكما لا يقال إن بين الأكل والمأكول مودة، كذلك لا ينبغى أن يقال أن بين المحبين مودة. إنما تكون العلاقة بينهما قائمة على الرغبة فى الالتهام أو الاستحواذ إطاعة للغريزة لا عن مودة. والحبيبان أشبه بالمتقاتلين المتبارزين منهما بالصديقين المتوادين، لان مطلب كل منهما الاستيلاء والغلبة؛ وهما لا يستعملان سلاحًا ولا يحدثان جراحًا، ولكن الواقع أن القبل والعناق والضم وغير هذا وذاك مما يكون بين المحبين - كل ذلك ليس إلا وسائل للتليين بغية التغلب. وقد استعمل الشعراء ألفاظا كثيرة كانوا فيها صادقين من حيث لا يشعرون، فذكروا فى مواقف الحب وحالاته المختلفة المتعددة السيف والجراح والأكباد القريحة والقلوب المفجوعة والنفوس الكليمة والسهام وما إلى ذلك، فأشاروا إلى حقيقة العلاقة بين الحبيبين من حيث يحسون بها بالفطرة ولا يدركونها بالعقل. والحقيقة هى أن الحب حرب واقتتال وفتك، وغايته - وهى النسل - تنطوى على تعرض للتضحية الكبرى على الأقل من جانب المرأة - وسبيله الإخضاع. فالمرأة تحاول إخضاع الرجل ليتسنى لها بذلك أن تجىء بالنسل الذى جعلتها الطبيعة أداة له. والرجل يحاول إخضاع المرأة ليتسنى له أن يجعلها تجيئه بالنسل الذى يطلبه بغريزته. والحال بينهما دائر أبدًا على الكفاح. وفى كل شعر صادق - قديم أو حديث - لمحات عديدة تدل على التفطن إلى هذه الحقيقة ولو من غير إدراك تام صحيح جلى لها" (المازني 1937)
الأحد، 4 سبتمبر 2011
جسد على المجاز
أعمل كالحمار بالليل والنهار وأكتب فى اليوم الواحد فصولاً ثلاثة أو أربعة لأكثر من صحيفة واحدة. وأقطع بالسيارة أكثر من خمسين كليو فى نهارى. وأسهر إلى منتصف الليل. ثم أقوم فى الفجر مع الديكة والعصافير وأقصد إلى مكتبى وأروح أدق على آلة الكتابة حتى لقد غير جارى غرفة نومه لكثرة ما أزعجه وأطير النوم عنه فى الصباح الباكر.. وأنا أجالس الناس وأحادثهم وأفعل ما يفعله المرء بشبابه ولا أرانى أكل أو أهى أو أمل أو أفتر.. وإن رأسى لدائب لا يكف عن العمل فى يقظة أو نوم. ولو كنت أقيد ما يدور فى نفسى لوسعنى أن أملأ الدنيا كلامًا، ولكن المصيبة أنى لا أقيد شيئًا وأنى أنسى. فالذى يبقى لى لا يعد جزءًا من مائة مما يخطر لى.
ولقد قال لى مرة طبيب حاذق شكوت إليه أنى لا أهدأ - إن بنائى كله من الأعصاب، وأن جسمى ليس أكثر من شبكة أعصاب ركبت لها العظام لتمسكها ووضع لى هنا قلب وهناك معدة إلى آخر ذلك، ثم كسى هذا كله جلدًا رقيقًا ليمكن أن يقال إن هذا جسم إنسان، ولكن المهم هو هذه الأعصاب، فإذا كنت أشكو شيئًا فى بعض الأحيان فيحسن بى أن أعرف أنه من الأعصاب ليس إلا "فأرحها حين تتعب تعد كما كانت فإنها متينة. وأكبر الظن أن هذه ليست أعصابًا وإنما هى "جنازير من الحديد" ويكفى أنها تتحملك".
كذلك قال ودليل صدقه أنى لم أشك شيئًا قط منذ سمعت منه هذا، ولو كان بى شىء غير هذه الأعصاب لما نفعنى كلامه. ولقد خرجت من عنده إلى صيدلية فيها ميزان فوقفت عليه فإذا بى بثيابى الشتوية لا أزن أكثر من سبعة وأربعين كيلو، فضحكت وقلت "كم ترى يكون وزنى فى الحمام بغير هذه الثياب.. أو فى الصيف الذى يستدعى التخفيف.. صدق الطبيب الحاذق فما هذا بجسم إلا على المجاز.. ولكن هذا البناء الواهى يحتمل النوم على الرمال وتوسد الحجارة. نعم فإنى كثيرًا ما أخرج إلى الصحراء فأرتمى على رمالها ساعة وساعتين وتحت رأسى حجر صلد كبير، وفى بيتى أترك الفراِش الوثير إلى الكراسى الخشنة التى لا راحة لمخلوق عليها.. وأفتح النوافذ وأقعد أو أنام بين تيارات الهواء ولا أرى ذلك يضيرنى. وأحسب هذا وراثة، فقد كانت أمى رحمها الله تنام وأنفها إلى النافذة المفتوحة- صيفًا وشتاءً. نعم أزكم أحيانًا ولكن الفيل يزكم.. وساقى مهيضة ولكن لا أتعب من المشى وإنما أتعب من الوقوف.. ولم أتخذ المدافىء قط. فإذا أوقدوا فى بيتنا نارًا تركت لهم الغرفة إلى أخرى لا نار فيها.. وما لبست معطفًا إلا فى أعقاب مرض وعلى سبيل الوقاية إلى حين.. وإنى لأرى مناعة جسمى تزداد عامًا فعامًا وأرانى كلما علت سنى أحس إنى صرت أقوى وأصح بدنًا وأقدر على العمل والحركة والجهد..
ذكر الحب والاعتراف به
"كان التحرج شديدًا فى الجيل الماضى من ذكر الحب والاعتراف به أو المجاهرة به، لأن التقاليد كانت صارمة وكان لها معين من الدين لا يستهان به، وكانت الجماعة تنزع إلى الاحتشام. وكانت قاعدة الحياة من هذه الناحية المثل المشهور "إذا بليتم فاستتروا" فكانت معاقرة الخمر علي قارعة الطريق ممنوعة لا بحكم القانون بل بقضاء العرف، وكان الشبان مثلاً يستحيون أن يجلسوا فى القهوات، وكان النساء يتحجبن ويحرصن على ستر زينتهن، ولم يكن اتصال شاب بفتاة من الهينات، ثم جاءت الحرب فرجت الدنيا، وزلزلت قواعد الحياة فيها، وانتشر التعليم، وشاع الاطلاع على الآراء الحديثة فى الأمور الجنسية، وهدمت الهبة القومية المصرية حواجز كثيرة وفى جملتها ما كان يفصل الجنسين ويفرق بينهما، وصار الناس -شيئًا فشيئًا - يلهجون بذكر الحب ويتناولونه فى مجالسهم وفى كتاباتهم تناولاً هو أقرب ما يكون إلى البحث العلمى، ولم يعد الشبان- بسبب نشأتهم والجو الجديد المحيط بهم ينظرون إلى الحب وما يتعلق به كما كان آباؤهم يفعلون أو يرون فى الأمر موجبًا للحماسة أو داعيًا للخجل أو باعثًا على الاستحياء. وجاء التطور الاجتماعى ولا سيما فيما يتعلق بإمكان ضبط النسل هادمًا لحاجز منيع بين الرجل والمراة. وفى الأمثال إن الشجرة تعرف من ثمارها؛ فإذا لم تكن ثم ثمرة فأين الشجرة؟ وضعف العرف وتفككت قيوده وحصل التمرد عليه فى سبيل الحرية كما حصل التمرد على كل قيد آخر. ومن أخطار الحرية فى بادىء الأمر أن الناس يطلبون الحقوق وينسون الواجبات التى تقابل الحقوق. والتوازن لا يعود إلا ببطء وبعد التحارب الطويلة والمعاناة المرة والدروس العملية الأليمة. وبذلك فقد الحب الهالة التى كانت حوله وسلب القداسة القديمة، وصار على الأيام أمرًا عاديًا، وهوى إلى مرتبة الرقص والألعاب الرياضية، لأن وطأة العرف والتقاليد ضعفت وخفت جدًا حتى ليمكن أن يقال أنها غير محسوسة فى الأغلب والأعم. وفى مثل هذه الأحوال التى يعظم فيها الترخص والتسامح يندر الحب القوى العميق الطويل العمر" (المازني 1937)
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)