جربت الفقر بعد موت أبى وكان فى حياته مسرفًا ولكنه ترك لنا مالا أتى عليه أخ "كان" أكبر منى – وأقول كان لأنه لحق بمن عبر – فكدنا نلصق بالتراب من شدة الفاقة، وكان لا بد أن نأكل ونشرب ولا بد أن نتعلم أيضًا، وكانت أمى تبيع ما عندها من الحلى وما إلى ذلك لتنفق علينا واخونا لاه عنا بتضييع مالنا وكنت أنظر إلى الجهد الذى تتجشمة أمى فى تدبير الأمر، وإلى حال أخى ولهوه فأحس باليأس من الخير فى الطبيعة الإنسانية، ويخامرنى من المرارة ما يكاد يفيض على لسانى، إلى أن كان يوم أسود بلغ الضيق والكرب فيه ما لا سبيل بعده إلى الاحتمال، وإنى لواقف فى ساحة البيت وظهرى إلى الحائط وعينى إلى الأرض وإذا بشيخ من العلماء أعرفه كان صديقًا لأبى وزميلاً له وتلميذًا لجدى فى طلب العلم فأححست بقلبى يهبط إلى حذائى وأنا اتقدم إليه لأحييه وأرحب به، فما كان فى البيت حبة من البن أو قطعة من السكر – ولا غيرهما أيضًا – ودار رأسى وأنا أفكر فى فضيحتنا مع هذا الضيف الكريم الذى لا نملك الطعام والشراب ما نكرمه به. ودعانى أن أصعد إلى جدتى وأن أقرئها سلامه وأن استأذن له عليها فقد كان كابنها وكان يلازم جدى أيام التحصيل والطلب. وجلس إليها وأقبل عليها يسألها عن الصحة والحال وهى تحمد الله الذى لا يحمد على المكروه سواه. وأنا واقف أنظر ولا أكاد أرى أو أعى شيئًا وإذا بى اسمعه يقول لها إن "الأفندى" – يعنى أبى – كان قد ترك معى قبل موته مالا مخافة أن يبقى معه فينفقه وكان فى نيته أن يعطيه غيره وغيره لاحفظه له أيضًا ثم يشترى بها أرضًا أو عقاراً ولكن أجله وفاه قبل أن يتيسر ذلك فبقى المال عند هذا الشيخ الجليل لا يعلم به أحد وقد خاف الشيخ أن يموت فيضيع على ذوى الحق حقهم فهو يريد أن يرده إلينا لتبرأ ذمته. وقد عشنا بهذا المال حتى استطعت أن أكسب رزقى بعرق جبينى. وكانت هذه الحادثة هى التى ردت إلى نفسى الإيمان بالخير فى الدنيا. ولم نصبح بهذا المال أغنياء ولكنه كان حسبنا مع حسن التدبير. (المازني 1928)